الرد على شبهة أن النبي قال للكاتب المرتد (اكتب كيف شئت) | هل كان هناك كاتب يحرف القرآن ويكتب (عليماً حكيماً) بدلاً من (غفوراً رحيماً)

الرد على شبهة أن هناك رجل كان يكتب القرآن للنبي ويكتب (سميعاً بصيراً) بدلاً من (عليماً حكيماً)، ويكتب (عليماً حكيماً) بدلاً من (غفوراً رحيماً) ثم ارتد

 مضمون الشبهة:

يزعم أعداء الإسلام أن النبي محمد سمح لأحد المرتدين بتحريف القرآن حسبما يشاء حيث كان النبي يقول لكاتب القرآن: [اكتب كيف شئت].

 ويستدل أعداء الإسلام بهذه الرواية التالية:

[حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ ، أَخْبَرَنَا حُمَيْدٌ ، عَنْ أَنَسٍ ، أَنَّ رَجُلًا كَانَ يَكْتُبُ لِلنَّبِيِّ، وَقَدْ كَانَ قَرَأَ الْبَقَرَةَ ، وَآلَ عِمْرَانَ ، وَكَانَ الرَّجُلُ إِذَا قَرَأَ الْبَقَرَةَ ، وَآلَ عِمْرَانَ جَدَّ فِينَا (يَعْنِي عَظُمَ) ، فَكَانَ النَّبِيُّ يُمْلِي عَلَيْهِ: (غَفُورًا رَحِيمًا) ، فَيَكْتُبُ: (عَلِيمًا حَكِيمًا) ، فَيَقُولُ لَهُ النَّبِيُّ: «اكْتُبْ كَذَا وَكَذَا ، اكْتُبْ كَيْفَ شِئْتَ» ، وَيُمْلِي عَلَيْهِ: (عَلِيمًا حَكِيمًا) ، فَيَقُولُ : «أَكْتُبُ سَمِيعًا بَصِيرًا؟» ، فَيَقُولُ : «اكْتُبْ اكْتُبْ كَيْفَ شِئْتَ» ، فَارْتَدَّ ذَلِكَ الرَّجُلُ عَنِ الْإِسْلَامِ ، فَلَحِقَ بِالْمُشْرِكِينَ ، وَقَالَ: «أَنَا أَعْلَمُكُمْ بِمُحَمَّدٍ ، إِنْ كُنْتُ لَأَكْتُبُ مَا شِئْتُ» ، فَمَاتَ ذَلِكَ الرَّجُلُ ، فَقَالَ النَّبِيُّ: «إِنَّ الْأَرْضَ لَمْ تَقْبَلْهُ».]


-----------------------------------

الرد على هذه الشبهة السخيفة:

أولاً:

 الرواية السابقة هي رواية ضعيفة ولا تصح سنداً ولا متناً بل إن هذه الرواية تخالف الروايات الموجودة في صحيح البخاري ومسلم.

وسبب ضعف سند الرواية السابقة هو أن الذي رواها هو حُميد الطويل، وهو راوٍ مدلس كثير التدليس ، وهو في الدرجة الثالثة من المدلسين حيث لا تُقبَل روايتهم المعنعنة إلا إذا صرحوا بالسماع. وهذا الراوي هنا لم يصرح بالسماع من أنس.

ومعظم روايات حُميد الطويل لم يسمعها من أنس بن مالك بل هو أخذها من أشخاص آخرين ولكنه ينسب الروايات مباشرةً إلى أنس بن مالك ويقوم بحذف الواسطة في السند بينه وبين أنس.

ودعني أعطيك بعض الأدلة على أن عنعنة حُميد الطويل لا تُقبَل نظراً لأنه مدلس:

- ورد في كتاب (المطالب العالية محققاً) 3/ 142 ما يلي:

[لكن حُميد الطويل مدلس لا يُقبَل من روايته إلَّا ما صرح فيه بالسماع وقد عنعن هنا، ولم يصرح بالسماع عند جميعهم..... والحديث معلول بعنعنة حميد الطويل، فالحديث ضعيف حتى يوجد له طريق مقبولة يصرح فيها حميد بالسماع.


- ويقول الدكتور الشيخ/ عبد اللطيف الهميم - في كتاب (الموسوعة الحديثية) 6/ 402 ما يلي:

[وهذا الإسناد ضعيف: حميد الطويل مدلس وقد عنعن]

 

- ويقول الأستاذ الدكتور/ سعود بن عيد الصاعدي - في كتاب (الأحاديث الواردة في فضائل الصحابة) 6/ 503 ما يلي:

[وحميد الطويل مدلس، مشهور، ولم يصرح بالتحديث ... فالحديث ضعيف]


- وورد في كتاب (مختصر تلخيص الذهبي) - الجزء 5- هامش صفحة 2381 ما يلي:

[الحديث ضعيف بهذا الإسناد لعنعنة حميد الطويل وتدليسه.]

*************

وأما بالنسبة لمَن يتحججون بأن حُميد الطويل ربما يكون أخذ هذه الرواية من (ثابت البناني) أو (قتادة) ، وثابت وقتادة سمعوها من أنس بن مالك...، فإني أرد عليهم وأقول:

من المستبعد أن يكون حُميد الطويل قد سمع الرواية السابقة من ثابت البناني؛ وذلك نظراً لأن ثابت البناني نفسه لم يذكر عبارة [اكتب كيف شئت]

وإليك رواية ثابت البناني الموجودة في صحيح مسلم:

[عَنْ ثَابِتٍ ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ، قَالَ : كَانَ مِنَّا رَجُلٌ مِنْ بَنِي النَّجَّارِ قَدْ قَرَأَ الْبَقَرَةَ وَآلَ عِمْرَانَ ، وَكَانَ يَكْتُبُ لِرَسُولِ اللَّهِ، فَانْطَلَقَ هَارِبًا حَتَّى لَحِقَ بِأَهْلِ الْكِتَابِ ، قَالَ : فَرَفَعُوهُ. قَالُوا : «هَذَا قَدْ كَانَ يَكْتُبُ لِمُحَمَّدٍ» ، فَأُعْجِبُوا بِهِ فَمَا لَبِثَ أَنْ قَصَمَ اللَّهُ عُنُقَهُ فِيهِمْ ، فَحَفَرُوا لَهُ فَوَارَوْهُ ، فَأَصْبَحَتِ الْأَرْضُ قَدْ نَبَذَتْهُ عَلَى وَجْهِهَا ، ثُمَّ عَادُوا فَحَفَرُوا لَهُ فَوَارَوْهُ ، فَأَصْبَحَتِ الْأَرْضُ قَدْ نَبَذَتْهُ عَلَى وَجْهِهَا ، ثُمَّ عَادُوا فَحَفَرُوا لَهُ فَوَارَوْهُ ، فَأَصْبَحَتِ الْأَرْضُ قَدْ نَبَذَتْهُ عَلَى وَجْهِهَا فَتَرَكُوهُ مَنْبُوذًا

هنا ☝ نلاحظ أن رواية ثابت البناني في صحيح مسلم لا يوجد فيها أن النبي سمح للكاتب المرتد أن يكتب القرآن على مزاجه.

فالرواية التي رواها ثابت البناني بنفسه ليس فيها أن النبي قال للمرتد: [اكتب كيف شئت]

وأما لو افترضنا أن حميد الطويل أخذ الرواية من قتادة ، فإن قتادة نفسه مدلس أيضاً ، وهو أحياناً يسمع روايات من أشخاص آخرين فينسب هذه الروايات إلى أنس مباشرةً. ولذلك لا تُقبَل عنعنة قتادة إلا إذا تأكدنا من سماعه. فالرواية ضعيفة في كلا الاحتمالين


--------------------

وقد وردت نفس رواية حميد الطويل بسند ضعيف في كتاب (دلائل النبوة) ، وهي كالتالي:

[أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَحْمَدَ السَّمَرْقَنْدِيُّ الْحَافِظُ، أَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ نَصْرٍ العَاصِمِيُّ ، ثنا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عِمْرَانَ الشَّاشِيُّ ، ثنا عُمَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْبَجِيرِيُّ ، ثنا أَبُو نَشِيطٍ مُحَمَّدُ بْنُ هَارُونَ بْنِ نَشِيطٍ ، ثنا عُمَرُ بْنُ الرَّبِيعِ بْنِ طَارِقٍ الْهِلَالِيُّ ، ثنا يَحْيَى هُوَ ابْنُ أَيُّوبَ ، عَنْ حُمَيْدٍ ، قَالَ : سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ، يُحَدِّثُ أَنَّ رَجُلًا كَانَ يَكْتُبُ لِلنَبِيِّ ، وَكَانَ قَدْ قَرَأَ الْبَقَرَةَ وَآلَ عِمْرَانَ ، وَكَانَ الرَّجُلُ إِذَا قَرَأَ الْبَقَرَةَ وَآلَ عِمَرَانَ عُدَّ فِينَا ، قَالَ : فَكَانَ النَّبِيُّ يُمْلِي عَلَيْهِ: (غَفُورًا رَحِيمًا) ، فَيَكْتُبُ (عَلِيمًا حَكِيمًا) ، فَيَقُولُ لِلنَّبِيِّ : «أَكْتُبُ كَذَا وَكَذَا؟» ، فَيْقُولُ لَهُ النَّبِيُّ: «اكْتُبْ كَيْفَ شِئْتَ» ، وَيُمْلِي عَلَيْهِ: (عَلِيمًا حَكِيمًا) ، فَيَقُولُ : «أَكْتُبُ سَمِيعًا بَصِيرًا؟!» ، فَيَقُولُ لَهُ النَّبِيُّ: «اكْتُبْ فَهُوَ كَذَلِكَ» ، قَالَ : فَارْتَدَّ عَنِ الْإِسْلَامِ وَلَحِقَ بِالْمُشْرِكِينَ ، فَقَالَ : «أَنَا أَعْلَمُكُمْ بِمُحَمَّدٍ ، إِنْ كَانَ لَيَقُولُ: اكْتُبْ مَا شِئْتَ» ، فَمَاتَ ، فَقَالَ النَبيُ: «إِنَّ الْأَرْضَ لَنْ تَقْبَلَهُ»] 

ولكن الرواية السابقة ضعيفة جداً ☝؛ وسندها مظلم ؛ فالراوي/ عبد الصمد بن نصر العاصمي هو راوٍ مجهول الحال

والراوي/ محمد بن أحمد بن عمران الشاشي هو راوٍ مجهول الحال أيضاً.

والراوي/ أبو نشيط محمد بن هارون بن نشيط ليس له توثيق معتمد في كتب الرجال.

والراوي/ يحيى بن أيوب الغافقي هو راوٍ صدوق ولكنه يرتكب الأخطاء في نقل الحديث، ولذلك قام بتجريحه عدة علماء مثل: أبو بشر الدولابي ، وأبو بكر الإسماعيلي ، وأبو حاتم الرازي ،  والنسائي ، والدارقطني ، وزكريا بن يحيى الساجي ، ومحمد بن سعد ، وأحمد بن صالح المصري ، وابن حزم الظاهري، وابن حجر العسقلاني ، والذهبي وغيرهم.

* فالرواية ضعيفة جداً....

------------------------------

وأما بالنسبة للرواية التالية:

[حَدَّثَنَا عَفَّانُ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ثَابِتٌ، عَنْ أَنَسٍ: أَنَّ رَجُلًا كَانَ يَكْتُبُ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَإِذَا أَمْلَى عَلَيْهِ: «سَمِيعًا»، يَقُولُ: «كَتَبْتُ سَمِيعًا بَصِيرًا»، قَالَ: «دَعْهُ»، وَإِذَا أَمْلَى عَلَيْهِ «عَلِيمًا حَكِيمًا»، كَتَبَ: (عَلِيمًا حَلِيمًا) - قَالَ حَمَّادٌ نَحْوَ ذَا - قَالَ: وَكَانَ قَدْ قَرَأَ الْبَقَرَةَ وَآلَ عِمْرَانَ، وَكَانَ مَنْ قَرَأَهُمَا قَدْ قَرَأَ قُرْآنًا كَثِيرًا، فَذَهَبَ فَتَنَصَّرَ، فَقَالَ: لَقَدْ كُنْتُ أَكْتُبُ لِمُحَمَّدٍ مَا شِئْتُ فَيَقُولُ: «دَعْهُ»، فَمَاتَ فَدُفِنَ فَنَبَذَتْهُ الْأَرْضُ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا. قَالَ أَبُو طَلْحَةَ: «وَلَقَدْ رَأَيْتُهُ مَنْبُوذًا فَوْقَ الْأَرْضِ»]

ولكن الرواية السابقة مشكوك فيها ؛ فالرواي حَمَّاد بن سلمة يبدو أنه قد اختلط فيها ، ولذلك ورد في الرواية: [قَالَ حَمَّادٌ: نَحْوَ ذَا] ؛ أي أن حماد لا يروى هذه الرواية بكل دقة بل يرويها بالشبه. وهذا يشكك في مصداقية الرواية أصلاً. ومن المعلوم أن حمَّاد قد اختلط في آخر عمره وساء حفظه كما قال أبو بكر البيهقي. وحماد بن سلمة اعترف بنفسه أنه ينقل هذه الرواية بالشبه. ولذلك نلاحظ أن هذه الرواية ورد فيها أشياء غريبة لا توجد في رواية [سليمان بن المغيرة عن ثابت].

ومما يثبت أن الرواية السابقة غير دقيقة هي أنها تخالف باقي الروايات ؛ فمثلاً: باقي الروايات تقول أن الكاتب كتب (سميعاً بصيراً) بدلاً من (عليماً حكيماً)، ولكن هذه الرواية تقول أن الكاتب كتب (عليماً حليماً) بدلاً من (عليماً حكيماً) وتقول هذه الرواية أنه كتب (سميعاً بصيراً) بدلاً من (سميعاً)!!!

وحتى لو افترضنا أن الرواية السابقة صحيحة، فإن هذه الرواية لم تذكر أبداً أن الكاتب المرتد كان يكتب القرآن ويُحرِّفه للنبي بل الذي ورد في الرواية هو أن النبي محمد كان يملي على هذا الرجل عبارات لكي يكتبها وراءه. ومن المعروف أن النبي محمد كان يملي أشياءً أخرى غير القرآن مثل بعض المواعظ وبعض الرسائل والوصايا للملوك والقبائل.

فهذا الرجل كان يكتب وصايا من النبي للناس ولم يكن يكتب القرآن نفسه، ولذلك كان النبي يسمح له أن يكتب أياً من صفات الله نظراً لأنها كلها حق؛ فالله هو السميع البصير الحكيم العليم الحليم العفو الغفور. وأنت من المسموح لك أن تكتب رسائل وعظية تتضمن أياً من صفات الله، ولكن ليس مسموحاً لك أن تغير في القرآن نفسه.

وأما بالنسبة لمن يظنون أن هذا الرجل المرتد كان يغير ويُحرِّف في سورة البقرة وآل عمران ...، فإنني أرد عليهم وأقول:

الرواية ليس فيها أن الرجل المرتد كان يُحرِّف سورة البقرة وآل عمران بل الذي ورد في الرواية هو أن هذا الرجل قرأ فقط سورتي البقرة وآل عمران وليس أنه كتبهما وراء النبي.

ثم إن هذا المرتد قد كتب عبارات: (سميعاً بصيراً) ، (عليماً حليماً).

ولكن سورة البقرة وآل عمران لا يوجد فيهما عبارات: (سميعاً بصيراً) ، ولا (عليماً حكيماً) ولا (عليماً حليماً) ، ولا يوجد فيهما كلمة: (سميعاً)

وهذا دليل واضح على أن هذا الرجل المرتد لم يكن يكتب سورة البقرة وآل عمران وراء النبي بل هو كان يكتب رسائل وعظية وراء النبي، وكان النبي يسمح له بكتابة أياً من صفات الله لأنها كلها حق، وليس لذلك علاقة بتحريف القرآن الكريم.

ولذلك إذا بحثتَ في كل الروايات فلن تجد رواية صحيحة تقول أن هذا الكاتب المرتد كان يكتب القرآن ويُحرِّفه.

وحتى لو افترضنا أن هذا الرجل المرتد قد قام بتحريف نسخة قرآنية ، فإن هذا لن يؤثر على القرآن أصلاً ، وذلك نظراً لأن هذا المرتد قد هرب بعيداً إلى أراضي النصارى ومات بعيداً هناك. أما القرآن الكريم الذي بين أيدينا فقد أخذه الصحابي زيد بن ثابت من فم النبي نفسه في العرضة الأخيرة قبل موت النبي، وكان زيد بن ثابت يجمع صحف القرآن من الصحابة الموجودين في المدينة بعد موت النبي محمد.

أما الرجل المرتد فإنه لم يكن ضمن الصحابة ، وقد مات هذا المرتد قبل موت النبي محمد، وهذا الرجل المرتد مات بعيداً في أرض النصارى، وبالتالي فإن نسخته المُحرَّفة لن تكون مصدراً من مصادر تجميع القرآن، ولن تؤثر نسخة هذا المرتد على القرآن الكريم أصلاً ؛ فالقرآن محفوظ. 

----------------------------

وأما بالنسبة للرواية التالية:

[أَخْبَرَنَا عُمَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْهَمْدَانِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا مُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: سَمِعْتُ حُمَيْدًا، قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسًا، قَالَ: كَانَ رَجُلٌ يَكْتُبُ لِلنَّبِيِّ ﷺ، وَكَانَ قَدْ قَرَأَ الْبَقَرَةَ، وَآلَ عِمْرَانَ عُدَّ فِينَا ذُو شَأْنٍ، وَكَانَ النَّبِيُّ ﷺ يُمْلِ عَلَيْهِ: (غَفُورًا رَحِيمًا)، فَيَكْتُبُ: «عَفُوًّا غَفُورًا»، فَيَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ: «اكْتُبْ»، وَيُمْلِي عَلَيْهِ: (عَلِيمًا حَكِيمًا)، فَيَكْتُبُ «سَمِيعًا بَصِيرًا»، فَيَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ: «اكْتُبْ أَيَّهُمَا شِئْتَ»، قَالَ: فَارْتَدَّ عَنِ الْإِسْلَامِ، فَلَحِقَ بِالْمُشْرِكِينَ، فَقَالَ: «أَنَا أَعْلَمُكُمْ بِمُحَمَّدٍ، إِنْ كُنْتُ لَأَكْتُبُ مَا شِئْتُ»، فَمَاتَ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ ﷺ، فَقَالَ: «إِنَّ الْأَرْضَ لَنْ تَقْبَلَهُ»]


ولكن الرواية السابقة مشكوك فيها ؛ فالذي رواها هو (معتمر بن سليمان) وهو رجل ثقة ولكن تقع منه أخطاء أحياناً ، ولذلك قال عنه الإمام/ يحيى بن سعيد القطان أنه سيء الحفظ. بل إننا نلاحظ اختلافاً بين ألفاظ هذه الرواية وغيرها من الروايات الأخرى؛ فإحدى الروايات تقول أن الكاتب كتب (عليماً حكيماً) بدلاً من (غفوراً رحيماً) ، ولكن هذه الرواية تقول أنه كتب (عفواً غفوراً) بدلاً من (غفوراً رحيماً). وهذا يدل على عدم دقة هذه الروايات التي تحكي حال المرتد. بل إن هذه الرواية تشير إلى أن المرتد لحق بمشركي العرب ، لكن الروايات الصحيحة تشير إلى أنه هرب إلى أراضي النصارى ، وهذا يثبت عدم دقة هذه الرواية. 

ثم إن الرواية السابقة ليس فيها أن هذا المرتد كان يُحرِّف القرآن وليس فيها أنه كان يكتب القرآن أصلاً، بل الذي ورد في هذه الرواية هو أن هذا المرتد قد قرأ سورة البقرة وآل عمران ولكنه لم يكتبهما.

والدليل على ذلك هو أن هذا المرتد كان يكتب في صحيفته عبارات: (عفواً غفوراً) ، (سميعاً بصيراً) ، لكن سورة البقرة وآل عمران ليس فيها هذه العبارات أصلاً. وهذا دليل على أن هذا المرتد لم يكن يكتب القرآن وراء النبي بل كان يكتب شيئاً آخر مثل المواعظ والرسائل والوصايا، وكان النبي يسمح له بكتابة أياً من صفات الله نظراً لأنها كلها صحيحة.

____________________

وأما بالنسبة للرواية الموجودة في صحيح البخاري، فهي كالتالي:

[حَدَّثَنا أَبُو مَعْمَرٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الوَارِثِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ العَزِيزِ، عَنْ أَنَسٍ ﵁، قَالَ: كَانَ رَجُلٌ نَصْرَانِيًّا فَأَسْلَمَ، وَقَرَأَ البَقَرَةَ وَآلَ عِمْرَانَ، فَكَانَ يَكْتُبُ لِلنَّبِيِّ ﷺ، فَعَادَ نَصْرَانِيًّا، فَكَانَ يَقُولُ: «مَا يَدْرِي مُحَمَّدٌ إِلَّا مَا كَتَبْتُ لَهُ» فَأَمَاتَهُ اللَّهُ فَدَفَنُوهُ، فَأَصْبَحَ وَقَدْ لَفَظَتْهُ الأَرْضُ، فَقَالُوا: «هَذَا فِعْلُ مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ لَمَّا هَرَبَ مِنْهُمْ، نَبَشُوا عَنْ صَاحِبِنَا فَأَلْقَوْهُ»، فَحَفَرُوا لَهُ فَأَعْمَقُوا، فَأَصْبَحَ وَقَدْ لَفَظَتْهُ الأَرْضُ، فَقَالُوا: «هَذَا فِعْلُ مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ، نَبَشُوا عَنْ صَاحِبِنَا لَمَّا هَرَبَ مِنْهُمْ فَأَلْقَوْهُ»، فَحَفَرُوا لَهُ وَأَعْمَقُوا لَهُ فِي الأَرْضِ مَا اسْتَطَاعُوا، فَأَصْبَحَ وَقَدْ لَفَظَتْهُ الأَرْضُ، فَعَلِمُوا: أَنَّهُ لَيْسَ مِنَ النَّاسِ، فَأَلْقَوْهُ.]


ولكن الرواية السابقة ليس فيها أن هذا الرجل المرتد كان يكتب القرآن وراء النبي محمد ، وليس فيها أن النبي سمح للمرتد بتحريف القرآن ، بل الذي ورد في الرواية السابقة هو أن هذا المرتد قد افترى على النبي وزعم أن النبي لا يدري إلا ما كتبه هذا المرتد له.

وطبعاً، كلام هذا المرتد ليس حجة على المسلمين ؛ فالكفار أيضاً اتهموا النبي محمد بعدة افتراءات ولكن كلامهم ليس حجة على المسلمين طالما أنهم لم يأتوا بدليل.

وهناك بعض المرتدين اليوم الذين يخترعوا افتراءات على الشيوخ والمسلمين ، ولكن كلامهم ليس حجة علينا طالما أنهم لم يأتوا بدليل.

وحتى غير المسلمين لا يقبلون كلامنا عليهم طالما أننا لم نأت بدليل عليهم.

ونفس الكلام ينطبق على هذا المرتد حيث أنه افترى على النبي محمد ولكنه لم يُحضِر أي دليل على ما يزعمه ، وبالتالي فإن كلامه ليس حجة علينا أبداً.

ثم إن تكملة الرواية تشير إلى أن الله عاقب هذا المرتد الكاذب فأماته وجعل الأرضَ تطرد جثته المتعفنة للعراء. وقد أخبر اللهُ نبيَه محمد بعقاب هذا المرتد الكاذب، ثم إن النبي أخبر صحابَته بهذا الأمر الغيبي الذي حصل بعيداً عنهم في أرض النصارى.


ملحوظة: هناك بعض الناس على الانترنت يسألون عن معنى العبارة التي وردت في نهاية الرواية والتي هي: [فَعَلِمُوا: أَنَّهُ لَيْسَ مِنَ النَّاسِ، فَأَلْقَوْهُ]

وأنا أرد عليهم وأقول: هذا المرتد هرب إلى بلاد الكفار ، فأماته الله هناك ، ولذلك قام الكفار بدفنه ، ولكن الأرض طردت جثته ، وعندما رجع الكفار في اليوم التالي وجدوا أن الجثة خرجت من الأرض، فظنوا أن النبي محمد وأصحابه قد نبشوا قبر هذا المرتد ، ولذلك أعاد الكفار دفن المرتد على عمق أكبر ، ولكنهم عادوا في اليوم التالي فوجدوا جثته خرجت من الأرض ، فظنوا أن النبي محمد وأصحابه قد نبشوا قبر المرتد مرة أخرى ، فأعاد الكفار دفن جثة المرتد على عمق أكبر ، وتكرر الأمر مراراً ، وفي كل مرة تطرد الأرضُ جثةَ المرتد. وفي النهاية علم الكفار أن خروج جثة المرتد ليس بفعل الناس، ولذلك ألقوا الجثة وتركوها ، وهذا معنى عبارة [فعلموا أنه ليس من الناس] ؛ أي أن هذا الشيء وهذا الفعل ليس من الناس.  


وأخيراً: أود أن أشير إلى أن الهدف من هذه الروايات هو توضيح عاقبة مَن يفتري على النبي محمد ؛ فهذا المرتد قد افترى على النبي محمد ، ولذلك أماته الله فوراً ، وجعل الأرض تطرد جثته لكي تتعفن أمام الناس في العراء.

ولذلك تقول تكملة الروايات: 

[وقَالَ أَنَسٌ : فَحَدَّثَنِي أَبُو طَلْحَةَ أَنَّهُ أَتَى الْأَرْضَ الَّتِي مَاتَ فِيهَا ذَلِكَ الرَّجُلُ ، فَوَجَدَهُ مَنْبُوذًا ، فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ: «مَا شَأْنُ هَذَا الرَّجُلِ؟» ، قَالُوا : «قَدْ دَفَنَّاهُ، فَلَمْ تَقْبَلْهُ الْأَرْضُ».]


ثم إنني أستعجب من اليهود والمسيحيين الذين ينتقدون الإسلام في حين أن بعض رسل وأنبياء الكتاب المقدس قد كتبوا أسفاراً مقدسة ثم ارتدوا عن الدين؛ فمثلاً: في اليهودية والمسيحية قام النبي سليمان بكتابة أسفار عديدة مثل (الجامعة والأمثال ونشيد الإنشاد والحكمة وبعض المزامير)، وبالرغم من ذلك فإنه ارتد في النهاية وعبد الأوثان وبنى لها المعابد بحسب الكتاب المقدس (سِفر الملوك الأول11).  

بل إن هناك رسلاً آخرين قد ارتدوا عن الدين المسيحي، فمثلاً: هناك نيقولاوس الشماس وهو أحد رسل المسيحيين، وقد قال عنه الكتاب المقدس أنه ممتليء من الحكمة والروح القدس ، ولكن هذا الرسول ارتد في النهاية واخترع بدعة النيقولاويين التي حذَّر منها سِفر رؤيا يوحنا اللاهوتي. وهذا البدعة النيقولاوية تتضمن إنكار الخالق والزنا وأكل طعام الأوثان وغير ذلك.

وهناك يهوذا الإسخريوطي الذي كان أحد تلاميذ يسوع وقد أعطاه يسوعُ سلطاناً يوم القيامة؛ لكي يُدين أسباطَ بني إسرائيل الاثنى عشر (إنجيل متَّى 19: 28)، ولكن يهوذا الأسخريوطي خان يسوع في النهاية وانحرف.

فهل يستطيع اليهود والمسيحيون أن يسخروا من كَتبة كتابهم الذي يقدسونه؟!

وإذا كان اليهود والمسيحيون يقبلون كلام المرتد الكاذب على النبي محمد ، إذن لماذا لم يقبل اليهود والمسيحيون كلام (صُوفَر النَعمَاتي) عندما قال أن الإنسان فارغ عديم الفهم وأن الإنسان يُولَد كجحش البراري (سفر أيوب11)؟!

ولماذا لم يقبل المسيحيون كلام اليهود حينما قالوا عن يسوع أنه تابع للشيطان (بعلزبول)؟!

____________________

إلى هنا ، أكون قد رددت على الشبهة بالكامل

لا تنسوا نشر المقال أو نسخه

لا تنسونا من صالح دعائكم

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته 

إرسال تعليق

التعليقات المسيئة يتم حذفها فوراً وأتوماتيكياً ولا تُعرض هنا
حقوق النشر © درب السعادة 🥀 جميع الـمواد متاحـة لك
x