مضمون الشبهة:
يزعم أعداء الإسلام أن هناك تناقض بين قول الله تعالى:
* ﴿وَجَعَلۡنَا مِنَ ٱلۡمَاۤءِ كُلَّ شَیۡءٍ حَیٍّ أَفَلَا یُؤۡمِنُونَ﴾ [الأنبياء ٣٠]
* ﴿وَٱللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَاۤبَّةࣲ مِّن مَّاۤءࣲ﴾ [النور ٤٥]
- ﴿وَٱلۡجَاۤنَّ خَلَقۡنَـاهُ مِن قَبۡلُ مِن نَّارِ ٱلسَّمُومِ﴾ [الحجر ٢٧]
- ﴿وَخَلَقَ ٱلۡجَاۤنَّ مِن مَّارِجࣲ مِّن نَّارࣲ﴾ [الرحمن ١٥]
فأعداء الإسلام يقولون: كيف يجعل الله من الماء كل شيء حي بالرغم من أن الجان كائن حي مخلوق من النار؟!
------------------------------------
الرد على هذه الشبهة السخيفة:
أولاً: أول مَن اخترع هذه الشبهة السخيفة هم المسيحيون في بداية هذا القرن، وكانوا ينشرون هذه الشبهة على منتدياتهم القذرة. والغريب في الأمر أن هؤلاء المسيحيين الحمقى لا يعرفون أنهم هكذا سيهدمون دينهم وكتباهم الذي يقدسونه ؛ فمثلاً: كتابهم المقدس يقول أن الرب خلق السموات والأرض من الماء وبالماء:
- ورد في رسالة بطرس الرسول الثانية (3: 5) ما يلي:
[لأن هذا يخفى عليهم بإرادتهم: أن السماوات كانت منذ القديم، والأرض بكلمة الله قائمة من الماء وبالماء.]
- وتقول الموسوعة الكنسية في تفسير النص السابقة ما يلي:
[الخليقة : لم تكن السموات والأرض موجودة، وخلقها الله بكلمته من الماء الذي كان يملأ كل مكان، ثم فصل الله بين مياه ومياه فصنع السموات من فوق ثم أظهر اليابسة وسط المياه فصارت أرضًا (تك1: 9، 10)]
إذن ، سأرد على هؤلاء المسيحيين بنفس منطقهم قائلاً: إذا كانت السموات والأرض مخلوقة من الماء، فلماذا باطن الأرض مستعر بالنار ، ولماذا نجوم السماء ملتهبة بالنار؟!
إذن، المسيحي الذي يردد شبهة خلق الجن هو نفسه يهدم كتابه من دون أن يدري...
---------------
ثانياً:
الكثير من المفسرين قالوا أن آية ﴿وَجَعَلۡنَا مِنَ ٱلۡمَاۤءِ كُلَّ شَیۡءٍ حَیٍّ﴾ لا تتكلم عن الجن ولا عن الملائكة ؛ لأن كلمة (كل) في اللغة العربية أحياناً لا تعني العموم المطلق بل يمكن استثناء بعض الأشياء منها، وذلك بحسب سياق الكلام والقرينة. وقد تكرر هذا الأسلوب اللغوي في القرآن الكريم؛ فمثلاً: قيل عن ملكة سبأ: {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} ، وقيل عن الموج: {وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ} ، وقيل عن ريح عاد: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَیۡءِۭ بِأَمۡرِ رَبِّهَا} ، وليس المقصود هنا العموم المطلق ولا المقصود هنا كل الأشياء في الوجود بل المقصود هنا هو أشياء معينة.
وحتى نحن في حياتنا اليومية نستخدم كلمة (كل) ولكننا أحياناً لا نقصد بها العموم المطلق؛ فمثلاً: أنت تدخل على مديرك وتقول له أنك جهزت كل الأوراق والتحضيرات، ولكنك هنا لا تقصد بكلمة (كل) أنك أحضرت كل الأوراق التي في الوجود بل تقصد أوراقاً معينة.
وأنت قد تجلس مع صديقك وتقول له أن كل الناس يتحدثون عنه ويطعنون في سيرته ، ولكنك هنا لا تقصد كل الناس الذين في العالم بل تقصد ناس معينين.
وكذلك القرآن قد يذكر عبارة [كل شيء] ويقصد بها مخلوقات معينة، والمقصود يتبين حينها سيتبين من سياق الآية.
يقول الإمام ابن عادل في كتابه (اللباب في علوم الكتاب) 13/ 487 — ما يلي:
[فإن قيل: كيف قال: خلقنا من الماء كل حيوان، وقد قال: ﴿والجآن خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السموم﴾ [الحجر: ٢٧]، وقال النبي ﵇: «إن الله تعالى خلق الملائكة من النور».... ، فالجواب: اللفظ وإن كان عامًا إلا أن القرينة المخصصة قائمة]
فهنا ☝، ابن عادل يقول أن عبارة ﴿وَجَعَلۡنَا مِنَ ٱلۡمَاۤءِ كُلَّ شَیۡءٍ حَیٍّ﴾ معها قرينة تخصصها حيث يخبرنا السياق بأن القرآن يقصد مخلوقات معينة وليس الجان أو الملائكة بشكل مطلق.
وحتى إذا افترضنا أن آية ﴿وَجَعَلۡنَا مِنَ ٱلۡمَاۤءِ كُلَّ شَیۡءٍ حَیٍّ﴾ تتكلم عن خلق الجن من الماء ، فأيضاً لن يكون هناك أي تناقض بين آيات القرآن الكريم؛ فالله قد يخلق مخلوقاً من مادة ثم يقوم بتحويل هذه المادة إلى شكل آخر حتى ينسجم مع المواد الأخرى؛ فمثلاً: الله خلق الإنسان من تراب ثم حوَّل هذا التراب إلى لحم ودم مختلفين عن التراب.
أنت إذا وضعت الماء على التراب فسيتحول التراب إلى طين لين، لكن الآن إذا رششنا الماء على جسد الإنسان فلن يتحول الإنسان إلى طين لين...، بل إن الإنسان يومياً يشرب الماء ولا تتحول أجسادنا إلى طين لين ولا تذوب.
ومن هنا يتبين لنا أن أصل الإنسان في البداية يختلف عن البنية الحالية للإنسان؛ فأصل الإنسان هو التراب لكن بنيتنا تغيرت بعد أن خلقنا الله من التراب.
وكذلك الله خلق الجان من نار ، وهذا هو أصل الجان، لكن بنية الجان ستتغير بعد خلقه وستصير بنيته مختلفة بعد ذلك ، وبالتالي لن يكون هناك مانع الآن من أن يحتاج الجان إلى القليل من الماء ليعيش مثلما نحن نحتاج الماء من أجل الحياة.
وأبسط دليل على أن بنية الجان تتغير بعد خلقه من النار هو أن النار نرى ضوءها بسبب طبيعتها الملتهبة لكن الجان الآن لا نراه بل هو مختفي عن أعيننا. وهذا يدل على أن طبيعة الجان تغيرت إلى شكل آخر بعدما خلقه الله من النار،
وبالتالي لا مانع من أن يحتاج الجان الآن إلى القليل من الماء ليعيش.
ولذا يقول الطبيب الشيخ/ محمد إسماعيل المقدم - في كتابه (تفسير القرآن الكريم) ١٧٧/ ١٠ — ما يلي:
[الله ﷾ جعل أصل خلقتنا من الماء ومن التراب، لكن كون أصل الخلقة من شيء فإنه يختلف تمامًا عن كينونة هذا الشيء وصيرورته فيما بعد، فنحن البشر بما أنَّا خُلقنا من طين، فهل إذا ابتللنا بالماء نصير طينًا؟! لا يكون هذا، كذلك أصل خلق الجن من النار كما في قوله: (وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ)، لكن ما هي الصورة التي عليها الجن الآن؟ لا ندري: ﴿إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ﴾ [الأعراف:٢٧] فكون أصلهم من نار لا يستلزم أنهم الآن نار.]
ملحوظة: بالنسبة لحديث [[الغضب من الشيطان ، والشيطان من النار، والماء يطفئ النار...]] ، فهذا حديث ضعيف.
------------------------
ثالثاً:
النار نفسها يمكن أن تنشأ من الماء؛ فمثلاً: عند وضع الصوديوم مع الماء ينشأ لهيب نار شديد وانفجار. وبالتالي يمكننا صنع اللهب هنا بواسطة الماء.
بل إن الماء يتكون أساساً من عنصري الأكسجين والهيدروجين ، وهما عنصران يؤديان إلى نيران شديدة وانفجار، وبالتالي إذا أراد الله أن يستخدم الماء وحلَّل عناصره إلى الأكسجين والهيدروجين، فيمكن إنشاء لهب نار منه، ويمكن خلق كائنات الجان من ذلك اللهب إذا شاء الله.
وهذا الكلام الذي أقوله ليس خيالاً من نفسي بل العلماء الذين يدرسون نشأة الحياة يقولون كلاماً مشابهاً لكلامي:
* يقول العلماء أنه في بيئة الأرض الأولى، حدث تحلل للماء، لكن بطريقة مختلفة عما نعرفه اليوم؛ ففي تلك الفترة البدائية كانت ظروف الأرض مختلفة تمامًا؛ حيث تواجدت حينها ظروف مناخية وجيولوجية خاصة ساعدت على ظهور التفاعلات الكيميائية الحيوية التي أسهمت في تكون الحياة.
يقول العلماء أنه في العصور الأولى من تاريخ الأرض كان الغلاف الجوي للأرض يحتوي على كميات كبيرة من الغازات مثل الميثان والأمونيا وثاني أكسيد الكربون، وكانت الشمس تنتج إشعاعات فوق بنفسجية قوية، وهي نوع من الإشعاع الذي يملك طاقة كافية لتحطيم جزيئات الماء (H₂O) إلى مكوناته الأساسية وهما: الهيدروجين والأوكسجين. هذا النوع من التحلل، الذي يُعرف بالتحلل الضوئي (photodissociation)؛ أي أن الماء أنتجت الأكسجين والهيدروجين وهما قادران على إنتاج النار.
بل إن الأكسجين الناتج من الماء قد يتفاعل مع الميثان ويُنتج لهباً في تلك الظروف البيئية الأولى.
* وبعض العلماء يسلطون الضوء على تفاعل الماء مع المعادن أو مصادر الحرارة في ظروف الأرض البدائية حيث يقولون أنه في بيئة الأرض الأولى كان هناك نشاط بركاني نشط جدًا، ودرجة الحرارة كانت مرتفعة بشكل كبير؛ مما كان بإمكانه الإسهام في تحفيز بعض التفاعلات الكيميائية التي تؤدي إلى تحلل الماء؛ فالحرارة العالية من البراكين أو النشاط الجيوحراري كان بإمكانها القيام بتحليل جزئي للماء، مما يُنتج الهيدروجين والأوكسجين.
* ويقول العلماء أيضاً بأن العصر الديفوني (منذ 419 إلى 359 مليون سنة) شهد زيادة سريعة في الغطاء النباتي، حيث كانت الشجيرات الخشبية والأشجار الصغيرة تهيمن على المناظر الطبيعية.
وخلال أواخر العصر الديفوني، بدأت شجرة خشبية تشبه الصنوبر في النمو. وبحلول نهاية العصر الديفوني، كان هناك توسع سريع للأشجار الخشبية القادرة على دعم بنيتها للوقوف منتصبة مع توصيل العناصر الغذائية في جميع أنحاءها.
أثناء هذا التوسع السريع للأشجار الخشبية، أدت عملية التمثيل الضوئي إلى تغيير التركيب الجوي من خلال العملية التالية:
6CO2 + 6H2O (+ light energy) → C6H12O6 + 6O2
وقد أدى هذا الارتفاع المفاجئ في عملية التمثيل الضوئي إلى امتصاص ثاني أكسيد الكربون من الغلاف الجوي وإطلاق الأكسجين. وتشير النماذج إلى أن هذه الزيادة في الأكسجين الجوي في منتصف العصر الديفوني وأواخره أدت إلى زيادة الأكسجين من حوالي 13% إلى 17% (يبلغ الأكسجين اليوم 21%) مما أدى إلى إمكانية اندلاع حرائق واسعة النطاق في جميع أنحاء الغابات الأرضية.
أي أن استخدام النبات للماء أدى إلى تكوين الأكسجين ومِن ثَم حدوث حرائق.
وسأترك لك المراجع بالأسفل
وأيضاً ، يمكن استخدام الماء لإنتاج النور فمثلاً: نور البرق الذي تراه في السماء ينتج أساساً بسبب تكثف قطرات الماء، وإليك آلية نشوء نور البرق👇:
الماء هو العامل الرئيسي في تكوين السحب الرعدية، ويبدأ البرق من السحب الركامية الرعدية، والتي تتكوّن عندما يتبخر الماء من سطح الأرض ثم يرتفع إلى الأعلى بسبب الحرارة والتيارات الهوائية.
عندما يصل الهواء الرطب إلى ارتفاعات عالية ودرجات حرارة منخفضة، يتكثف بخار الماء ليشكل قطرات ماء صغيرة أو بلورات جليدية، مما يؤدي إلى تكوين سحب كبيرة.
داخل السحابة، هناك تيارات هوائية صاعدة وهابطة قوية جدًا، مما يؤدي إلى تصادم جزيئات الماء والبرد والثلج ببعضها.
هذا التصادم يؤدي إلى نقل الشحنات الكهربائية بين الجسيمات:
- الجسيمات الأخف وزنًا (الثلج وبلورات الجليد) تحمل شحنات موجبة وتصعد إلى أعلى السحابة.
- الجسيمات الأثقل (البَرَد وقطرات الماء الكبيرة) تحمل شحنات سالبة وتبقى في أسفل السحابة.
هذه العملية تُسمى "الانفصال الكهربائي للشحنات"، وهي السبب الأساسي في توليد البرق.
وهناك عملية أخرى لإنتاج النور من الماء؛ فعند تطبيق جهد كهربائي عالٍ جدًا على الماء، يمكن أن يتأين ويُكوِّن بلازما مضيئة. والله قادر على فعل ذلك؛ فالرعد الذي خلقه الله يحتوي على جهد كهربي كبير يصل إلى 100 مليون فولت وهو كافٍ لتأين الماء وإنتاج بلازما مضيئة منها. وهذا الضوء الناتج قد يخلق الله الملائكة منه.
وهناك ظاهرة اسمها (إشعاع تشرينكوف) حيث أنه عندما تتحرك الجسيمات المشحونة (مثل الإلكترونات) داخل الماء بسرعة أعلى من سرعة الضوء في الماء، تُصدِر وميضًا أزرق مشعًا يُعرف بـ إشعاع تشرينكوف.
والخلاصة أن الله يقدر على استخدام الماء لصنع اللهب، ثم يصنع الجان من هذا اللهب. ويقدر الله على استخدام الماء لإنتاج النور وأن يخلق منه الملائكة.
ولذلك يقول الماوردي في تفسيره ٤/١١٤ — ما يلي:
[قوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَآبّةٍ مِّن مَّاءٍ﴾ فيه قولان: أحدهما: أن أصل الخلق من ماء ثم قُلب إلى النار فخلق منها الجن، وإلى النور فخلق منها الملائكة، وإلى الطين فخَلق مِنه مَن خلق وما خلق، حكاه ابن عيسى]
- ويقول نظام الدين النيسابوري في تفسيره ٥/١٨ — ما يلي:
[وأجاب بأنه يأتي في الروايات أنه جل وعز خلق الملائكة من ريح ، خلقها من الماء، والجن من نار خلقها منه، وآدم من تراب خلقه منه.]
- ويقول جعفر شرف الدين في كتاب (الموسوعة القرآنية خصائص السور) ٥/٢٩١ — ما يلي:
[فإن قيل: لِم قال تعالى: {وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} مع أن الملائكة أحياء والجنّ أحياء، وليسوا مخلوقين من الماء، بل من النور والنار، كما قال تعالى: {وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ} ، وكذا آدم مخلوق من التراب، وناقة صالح مخلوقة من الحجر؟
قلنا: المراد به البعض، وهو الحيوان، كما في قوله تعالى: {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} [سورة النمل: ٢٣] ، وقوله تعالى: {وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ} [يونس: ٢٢] ونظائره كثيرة. وأما التفسير الثاني: أنّ الكلّ مخلوقون من الماء، ولكن البعض بواسطة، والبعض بغير واسطة. ولهذا قيل إن الله تعالى خلق الملائكة من ريح ، خلقها من الماء، وخلق الجنّ من نار خلقها من الماء، وخلق آدم من تراب خلقه من الماء.]
ونفس الكلام السابق قاله مِن قبل زكريا الأنصاري في كتابه (فتح الرحمن بكشف ما يُلتبس في القرآن) ١/٣٧٤
وقاله الرازي اللغوي في كتاب (أنموذج جليل في أسئلة وأجوبة عن غرائب آي التنزيل) ١/٣٣٧
--------------------------
لا تنسوا نشر المقال أو نسخه
لا تنسونا من صالح دعائكم
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
---------------------------
المراجع العلمية: