مضمون الشبهة:
يزعم أعداء الإسلام أن النبي يونس ظن أن الله لا يستطيع فعل شيء تجاهه، ويستشهد أعداء الإسلام بالآية التالية:
﴿وَذَا ٱلنُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَـاضِبࣰا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقۡدِرَ عَلَیۡهِ فَنَادَىٰ فِی ٱلظُّلُمَـاتِ أَن لَّاۤ إِلَـٰهَ إِلَّاۤ أَنتَ سُبۡحَـانَكَ إِنِّی كُنتُ مِنَ ٱلظَّـالِمِینَ ٨٧﴾ [سورة الأنبياء]
-----------------------------------
الرد على هذه الشبهة السخيفة:
أولاً:
أعداء الإسلام فهموا الآية السابقة بالخطأ ، واعلم أنه ليس المقصود هنا من كلمة (نقدر) هو الاستطاعة أو المقدرة ، بل كلمة (نقدر) هنا يُقصَد بها التضييق؛ لأن الفعل (قَدَرَ) في اللغة العربية يأتي أيضاً بمعنى التضييق.
والمقصود من الآية السابقة هو أن النبي يونس ترك منطقته وترك قومه وذهب لمكان آخر ، وكان في ذِهنه أن ما فعله أمر عادي وأن الله لن يُضيِّق عليه في ذلك الخروج لمكان آخر...، ولكن الله جعله في بطن الحوت ليكون ذلك عبرة له حتى لا يكرر ما فعله؛ فقد كان من المفترض على يونس ألا يترك قومه إلا بعد أن يأذن الله له؛ لأن قومه الكفار يحتاجون إلى الهداية والدعوة إلى الرشاد ، والله أرسل يونس خصيصاً لهؤلاء القوم ، وبالتالي كان المفترض ألا يتركهم وألا يذهب لقوم آخرين إلا بعد أن يأذن الله له.
فالفكرة كلها تتلخص في أن يونس كان يظن أن الله لن يغضب مما فعله وكان النبي يونس يظن أن خروجه إلى مكان آخر هو شيء عادي، ولذلك فعل ما فعله.
والفعل (قَدَرَ) في اللغة العربية يأتي بمعنى (يضيق) كما قلنا من قبل، وقد استخدمه القرآن الكريم بهذا المعنى كثيراً ؛ فمثلاً:
قال الله تعالى:
﴿لِیُنفِقۡ ذُو سَعَةࣲ مِّن سَعَتِهِۦۖ وَمَن قُدِرَ عَلَیۡهِ رِزۡقُهُۥ فَلۡیُنفِقۡ مِمَّاۤ ءَاتَاهُ ٱللَّهُ﴾ [الطلاق ٧]
ومعنى عبارة (قُدر عليه) هنا ☝؛ أي ضاق عليه رزقه.
وقال الله تعالى:
﴿وَأَمَّاۤ إِذَا مَا ٱبۡتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَیۡهِ رِزۡقَهُۥ فَیَقُولُ رَبِّیۤ أَهَـانَنِ﴾ [سورة الفجر]
ومعنى عبارة (قدر عليه) هنا ☝ ؛ أي ضيَّق ، والمقصود من الآية هو أن بعض الناس عندما يضيق عليهم رزقهم فإنهم يغضبون ويسخطون من الله.
ونفس المعنى قد ذُكِرَ في آيات أخرى حيث قال الله تعالى:
﴿ٱللَّهُ یَبۡسُطُ ٱلرِّزۡقَ لِمَن یَشَاۤءُ وَیَقۡدِرُۚ وَفَرِحُوا۟ بِٱلۡحَیَوٰةِ ٱلدُّنۡیَا وَمَا ٱلۡحَیَوٰةُ ٱلدُّنۡیَا فِی ٱلۡـَٔاخِرَةِ إِلَّا مَتَـاعࣱ﴾ [الرعد ٢٦]
﴿إِنَّ رَبَّكَ یَبۡسُطُ ٱلرِّزۡقَ لِمَن یَشَاۤءُ وَیَقۡدِرُۚ إِنَّهُۥ كَانَ بِعِبَادِهِۦ خَبِیرَۢا بَصِیرࣰا﴾ [الإسراء ٣٠]
﴿أَوَلَمۡ یَرَوۡا۟ أَنَّ ٱللَّهَ یَبۡسُطُ ٱلرِّزۡقَ لِمَن یَشَاۤءُ وَیَقۡدِرُ إِنَّ فِی ذَ ٰلِكَ لَـَٔایَـاتࣲ لِّقَوۡمࣲ یُؤۡمِنُونَ﴾ [الروم ٣٧]
﴿قُلۡ إِنَّ رَبِّی یَبۡسُطُ ٱلرِّزۡقَ لِمَن یَشَاۤءُ وَیَقۡدِرُ وَلَـٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا یَعۡلَمُونَ﴾ [سبأ ٣٦]
﴿قُلۡ إِنَّ رَبِّی یَبۡسُطُ ٱلرِّزۡقَ لِمَن یَشَاۤءُ مِنۡ عِبَادِهِۦ وَیَقۡدِرُ لَهُ﴾ [سبأ ٣٩]
﴿أَوَلَمۡ یَعۡلَمُوۤا۟ أَنَّ ٱللَّهَ یَبۡسُطُ ٱلرِّزۡقَ لِمَن یَشَاۤءُ وَیَقۡدِرُۚ إِنَّ فِی ذَ ٰلِكَ لَآیَـاتࣲ لِّقَوۡمࣲ یُؤۡمِنُونَ﴾ [الزمر ٥٢]
إذن، الفعل (قدر) في القرآن الكريم يأتي أيضاً بمعنى التضييق ، وأيضاً معاجم اللغة العربية تقول نفس الشيء👇:
* قال العلَّامة اللغوي/ ابن سيده في كتابه (المحكم والمحيط الأعظم) ٦/٣٠٣ — ما يلي:
[وَقدر عَلَيْهِ الشَّيْء يقدره قَدَراً، وَقَدْراً، وَقدره: ضيَّقه، كل ذَلِك عَن اللحياني]
* وقال اللغوي/ ابن المبرد في كتابه (الدر النقي) ٢/١٧٩ — ما يلي:
[والقدْر: من الضَّيْق أيضًا، قال الله ﷿: ﴿وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ﴾.
وفي الحديث: «فاقْدُرُوا لَهُ»: أي ضَيِّقُوا عليه.]
* وقال اللغوي/ أحمد رضا في كتابه (معجم متن اللغة) ٤/٥٠٧ — ما يلي:
[قَدَرَ- قدراً ....وقدره أي: ضيَّقه.]
* يقول العلَّامة اللغوي/ مرتضى الزبيدي في كتابه (تاج العروس من جواهر القاموس) ١٣/٣٧٣ — ما يلي:
[والقَدْر: التَّضْيِيق، كالتَّقْدِير...، يُقَال: قَدَرَ عَلَيْهِ الشَّيْءَ يَقْدِرُه ويَقْدُرُه قَدْرًا وقَدَرًا، وقَدَّرَه: ضَيَّقَه، عَن اللّحيانيّ]
****************************
وعندما نفتح كتب التفسير فسنجد ما يلي:
* ورد في التفسير الميسر ما يلي:
[﴿وَذَا ٱلنُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَـاضِبࣰا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقۡدِرَ عَلَیۡهِ﴾ [سورة الأنبياء ٨٧] ؛ أي: واذكر قصة صاحب الحوت، وهو يونس بن مَتّى عليه السلام، أرسله الله إلى قومه فدعاهم فلم يؤمنوا، فتوعَّدهم بالعذاب فلم يُنِيبوا، ولم يصبر عليهم كما أمره الله، وخرج مِن بينهم غاضبًا عليهم، ضائقًا صدره بعصيانهم، وظن أن الله لن يضيِّق عليه ويؤاخذه بهذه المخالفة، فابتلاه الله بشدة الضيق والحبس والتقمه الحوت في البحر]
* وورد في المختصر في التفسير ما يلي:
[﴿وَذَا ٱلنُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَـاضِبࣰا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقۡدِرَ عَلَیۡهِ﴾ [الأنبياء ٨٧] ؛ أي: واذكر - أيها الرسول - قصة صاحب الحوت يونس عليه السلام، إذ ذهب دون إذن من ربه مغاضبًا قومه لتماديهم في العصيان، فظن أننا لن نُضَيِّق عليه، بعقابه على ذهابه، فابتُلِي بشدة الضيق والحبس حين التقمه الحوت.]
والخلاصة أن عبارة {فظن أن لن نقدر عليه} معناها أن يونس ظن أن الله سيسمح له بالذهاب هنا وهناك وأن يتوسع في أي مكان آخر يريده لكن الله أراد أن يكون يونس مخصصاً لقوم معينين في نطاق معين وألا يترك قومه ويذهب مكاناً آخر، وهذا يُسمَى بالتضييق.
وكذلك لم يكن يخطر في بال يونس أنه سيكون في بطن الحوت في ذلك المكان المحصور الضيق مقارنة بغيره ، وهذا يُسمى بالتضييق.
وبعض علماء اللغة كان لهم رأي آخر حول عبارة {فظن أن لن نقدر عليه} حيث قالوا أن (القدر) هنا بمعنى الحُكم والمصير والقضاء مثلما يحكم القاضي على شخص.
* قال الدكتور اللغوي/ أحمد مختار عمر - في كتاب (معجم اللغة العربية المعاصرة) ٣/١٧٨٠ — ما يلي:
[قدَرَ يقدُر ويقدِر، قَدْرًا وقَدَرًا، فهو قادِر، والمفعول مَقْدور
• قدَر اللهُ الأمرَ: قضى وحكم به ، مثل: قدر اللهُ السَّعادةَ عليه ، ومثل: ﴿فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ﴾: أي حُكم به أزلًا».]
* وقال العلَّامة اللغوي/ ابن سيده في كتاب (المحكم والمحيط الأعظم) ٦/٣٠٠ — ما يلي:
[الْقدر: الْقَضَاء وَالْحكم. قَالَ الله تَعَالَى: (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَة الْقدر): أَي الحكم]
* وقال اللغوي/ مرتضى الزبيدي في كتابه (تاج العروس من جواهر القاموس) ١٣/٣٧٠ — ما يلي:
[ق د ر : القَدَرُ، القَضَاءُ المُوَفَّق، نَقله الأَزهرِيُّ عَن اللَّيْث، وَفِي المُحْكَم: القَدَرُ: القَضَاءُ والحُكْمُ، وَهُوَ مَا يُقَدِّرُه اللهُ ﷿ من القَضَاءِ ويَحْكُم بِهِ من الأُمورِ.]
والخلاصة هنا أن عبارة {فظن أن لن نقدر عليه} ؛ أي أن يونس ظن أن الله لن يغضب إن خرج وترك قومه ، وبالتالي ظن يونس أن الله لن يحكم بشيء عليه إن خرج وترك قومه ، وظن يونس أن مصيره لن يكون هكذا.
وهذا الرأي في التفسير اللغوي هو رأي صحيح أيضاً ولا يتناقض مع الرأي السابق بل كلاهما يُكمِّل بعضهما بعضاً؛ ولذا قال العلَّامة اللغوي/ ابن منظور في كتاب (لسان العرب) ٥/٧٧ — ما يلي:
[وقَدَرَ عَلَيْهِ الشيءَ يَقْدِرُه ويَقْدُره قَدْرًا وقَدَرًا وقَدَّرَه: أَي ضَيَّقه؛ عَنِ اللِّحْيَانِيِّ.... فأَما مَنِ اعْتَقَدَ أَن يُونَسَ، ﵇، ظَنَّ أَن الله لَنْ يَقْدِرَ (يستطيع) عَلَيْهِ فَهُوَ كَافِرٌ لأَن مَنْ ظَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُؤْمِنٍ، وَيُونَسُ، ﵇، رَسُولٌ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ الظَّنُّ عَلَيْهِ. فَآلَ الْمَعْنَى إلى:《فَظَنَّ أَن لن نَقْدِرَ عليه الْعُقُوبَةِ》، وَيَحْتَمِلُ أَن يَكُونَ تَفْسِيرُهُ:《فَظَنَّ أَن لَنْ نُضَيِّقَ عَلَيْهِ》، مِثل قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ}؛ أَي ضُيِّقَ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ}؛ مَعْنَى {فَقَدَر عَلَيْهِ} أي فَضَيَّقَ عَلَيْهِ، وَقَدْ ضَيَّقَ اللَّهُ عَلَى يُونُسَ، ﵇، أَشدَّ تَضْيِيق ضَيَّقَه عَلَى مُعَذَّب فِي الدُّنِيَا؛ لأَنه سَجَنَهُ فِي بَطْنِ حُوتٍ فَصَارَ مَكْظُومًا أُخِذَ فِي بَطْنِه بكَظَمِهِ؛ وَقَالَ الزَّجَّاجُ فِي قَوْلِهِ: {فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ} أَي لَنْ نُقَدِّرَ عَلَيْهِ مَا قَدَّرنا مِنْ كَوْنِهِ فِي بَطْنِ الْحُوتِ. ونَقْدِرُ بِمَعْنَى نُقَدِّرُ، وَقَدْ جَاءَ هَذَا فِي التَّفْسِيرِ؛ قَالَ الأَزهري: وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ أَبو إِسحق صَحِيحٌ، وَالْمَعْنَى مَا قَدَّرَه اللَّهُ عَلَيْهِ مِنَ التَّضْيِيقِ فِي بَطْنِ الْحُوتِ، وَيَجُوزُ أَن يَكُونَ الْمَعْنَى لَنْ نُضَيِّق عَلَيْهِ. وَكُلُّ ذَلِكَ شَائِعٌ فِي اللُّغَةِ، وَاللَّهُ أَعلم بِمَا أَراد. فأَما أَن يَكُونَ قَوْلُهُ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ مِنَ الْقُدْرَةِ فَلَا يَجُوزُ، لأَن مَنْ ظَنَّ هَذَا كَفَرَ، وَالظَّنُّ شَكٌ وَالشَّكُّ فِي قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى كُفْرٌ، وَقَدْ عَصَمَ اللَّهُ أَنبياءه عَنْ مِثْلِ مَا ذَهَبَ إِليه هَذَا المُتَأَوِّلُ، وَلَا يَتَأَوَّلُ مثلَه إِلا الجاهلُ بِكَلَامِ الْعَرَبِ وَلُغَاتِهَا]
والخلاصة من كلام العالم اللغوي/ ابن منظور هو أن عبارة {فظن أن لن نقدر عليه} لها معنيان: المعنى الأول هو أن النبي يونس ظن أن الله لن يضيق عليه مجال تحركاته ، وظن أن بإمكانه مغادرة منطقته وقومه. والمعنى الآخر هو أن يونس ظن أن الله لن يغضب عليه وبالتالي لن يحكم بشيء ضده إن خرج ، وظن يونس أن مصيره لن يكون في بطن الحوت.
==================
إلى هنا ، أكون قد فندت الشبهة بالكامل بفضل الله تعالى
لا تنسوا نشر المقال أو نسخه
لا تنسونا من صالح دعائكم
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته